كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال اللّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} [الرعد: 31]، أراد لكان هذا القرآن، فحذف. وكذلك يحذفون من الكلمة الحرف والشّطر والأكثر، ويبقون البعض والشطر والحرف، يوحون به ويومئون. يقولون: (لم يك)، فيحذفون النون مع حذفهم الواو لاجتماع الساكنين. ويقولون: (لم أبل) يريدون: لم أبال. ويقولون: ولاك افعل كذا، يريدون: ولكن، قال الشاعر:
ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

ويحذفون في الترخيم، فيقولون: يا صاح، يريدون: يا صاحب، ويا حار، يريدون: يا حارث.
وقرأ بعض المتقدمين: {وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، أي يا مالك.
وقال اللّه تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [النمل: 25]، أي ألا يا هؤلاء اسجدوا للّه. ويقولون: عم صباحا، أي أنعم. وقال الفرّاء في قولهم: سترى: إنما أرادوا: سوف ترى، فحذفوا الواو والفاء. وكذلك أمثالها. كقولك: سيكون كذا، وسيفعل كذا، تأويلها عنده: سوف يكون، وسوف يفعل. وفي قوله: بينا، إنما هو بينما. وقال في الآن: إنما هو أصله الأوان، كما قالوا: الراح والرّياح للخمر، قال لبيد:
درس المنا بمتالع فأبان

أراد: المنازل، فقطع.
وقال الطّرمّاح يذكر بقرا:
تتّقي الشّمس بمدريّة ** كالحماليج بأيدي التّلام

المدريّة: القرون هاهنا.
والحماليج: منافيخ الصّاغة شبّه قرونها بها إذا نفخ فيها. والتّلام: أراد التّلاميذ، يعني غلمان الصاغة فقطع. وقال أبو دؤاد:
فكأنّما تذكي سنابكها ** الحبا أراد الحباحب

وقال الآخر:
أناس ينال الماء قبل شفاههم لهم ** واردات الغرض شمّ الأرانب

أراد: الغرضوف.
وقال الآخر:
في لجّة أمسك فلانا عن فل

أراد: عن فلان.
وقال الآخر:
قواطنا مكّة من ورق الحمي

أراد: الحمام.
وأنشد الفراء:
قلت لها: قفي فقالت لي: قاف

أراد فقالت: قد وقفت، فأومأت بالقاف إلى معنى الوقوف.
ولم نزل نسمع على ألسنة الناس: الألف: آلاء. اللّه، والباء: بهاه اللّه، والجيم: جمال اللّه، والميم: مجد اللّه. فكأنّا إذا قلنا: (حم) دللنا بالحاء على حليم، ودللنا بالميم على مجيد. وهذا تمثيل أردت أن أريك به مكان الإمكان. وعلى هذا سائر الحروف. ومن ذهب إلى هذا المذهب فلا أراه أراد أيضا إلا القسم بصفات اللّه، فجمع بالحروف المقطعة معاني كثيرة من صفاته، لا إله إلا هو. وروي أن بعض السلف وأحسبه عليا رحمة اللّه عليه، قال: الرّحم هو من الرّحمن. وقد كان (قوم من المفسرين) يفسرون بعض هذه الحروف فيقولون: (طه) يا رجل، و(يس) يا إنسان، و(نون) الدّواة. وقال (آخر): (الحوت) و(حم): قضي واللّه ما هو كائن، و(قاف): جبل محيط بالأرض. و(صاد)- بكسر الدال- من المصاداة وهي المعارضة. وهذا ما لا نعرض فيه، لأنا لا ندري كيف هو ولا من أي شيء أخذ خلا (صاد) وما ذهب إليه فيها.
في سورة سبأ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ} [سبأ: 20، 21].
تأويله: أن إبليس لما سأل اللّه تبارك وتعالى النّظرة فأنظره قال: {لأغوينّهم ولأضلّنّهم ولأمنّينّهم ولآمرنّهم فليبتّكنّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيّرنّ خلق اللّه} ولأتّخذنّ منهم نصيبا مفروضا وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنا أنّ ما قدّره اللّه فيهم يتمّ، وإنما قاله ظانا، فلما اتبعوه وأطاعوه، صدق ما ظنّه عليهم أي فيهم، ثم قال اللّه: وما كان تسليطنا إيّاه إلا لنعلم من يؤمن، أي المؤمنين من الشاكين.
وعلم اللّه تعالى نوعان:
أحدهما علم ما يكون من إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين، وذنوب العاصين، وطاعات المطيعين قبل أن تكون.
وهذا علم لا تجب به حجة ولا تقع عليه مثوبة ولا عقوبة.
والآخر: علم هذه الأمور ظاهرة موجودة فيحق القول ويقع بوقوعها الجزاء.
فأراد جل وعز: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهرا موجودا، وكفر الكافرين ظاهرا موجودا.
وكذلك قوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 142]، أي يعلم جهاده وصبره موجودا يجب له به الثواب.
وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)} [سبأ: 46]. تأويله أنّ المشركين قالوا: إن محمدا مجنون وساحر، وأشباه هذا من خرصهم، فقال اللّه جل وعز لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة، وهي أن تنصحوا لأنفسكم، ولا يميل بكم هوىّ عن حق، فتقوموا للّه وفي ذاته، مقاما يخلو فيه الرجل منكم بصاحبه فيقول له: هلمّ فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل جنّة قط أو جرينا عليه كذبا؟ فهذا موضع قيامهم مثنى. ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيفكّر وينظر ويعتبر. فهذا موضع قيامهم فرادى. فإنّ في ذلك ما دلهم على أنه نذير. وكل من تحير في أمر قد اشتبه عليه واستبهم، أخرجه من الحيرة فيه: أن يسأل ويناظر، ثم يفكّر ويعتبر.
في سورة الفرقان: {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضًا يَسِيرًا (46)} [الفرقان: 45، 46].
امتداد الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. كذلك قال المفسرون، ويدلك عليه أيضا قوله في وصف الجنة: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة: 30] أي لا شمس فيه، كأنه ما بين هذين الوقتين.
{وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا} أي: مستقرا دائما حتى يكون كظل الجنة الذي لا تنسخه الشمس.
{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} يقول: لما طلعت الشمس دلت عليه وعلى معناه. وكلّ الأشياء تعرف بأضدادها، فلولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، ولولا الحق ما عرف الباطل. وهكذا سائر الألوان والطّعوم، قال اللّه عز وجل: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} [الذاريات: 49] يريد به ضدين: ذكرا وأنثى، وأسود وأبيض، وحلوا وحامضا، وأشباه ذلك.
{ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضًا يَسِيرًا} يعني الظّل الممدود بعد غروب الشمس، وذلك أنّ الشمس إذا غربت عاد الظل الممدود، وذلك وقت قبضه. وقوله: {قَبْضًا يَسِيرًا} أي: خفيا، لأن الظل بعد غروب الشمس لا يذهب كلّه دفعة واحدة، ولا يقبل الظلام كلّه جملة، وإنما يقبض اللّه جلّ وعز ذلك الظل قبضا خفيّا شيئا بعد شيء، ويعقب كلّ جزء منه يقبضه بجزء من سواد الليل حتى يذهب كلّه. فدلّ اللّه عز وجل بهذا الوصف على قدرته ولطفه في معاقبته بين الشمس والظل والليل، لمصالح عباده وبلاده. وبعضهم يجعل قبض الظل عند نسخ الشمس إياه، ويجعل قوله قَبْضًا يَسِيرًا أي: سهلا خفيفا عليه. وهو وجه، غير أن التفسير الأول أجمع للمعاني وأشبه بما أراد.
في سورة يس: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 38].
قوله: {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها} أي: إلى مستقر لها، كما تقول: هو يجري لغايته وإلى غايته. ومستقرّها: أقصى منازلها في الغروب، وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع، فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه. وقرأ بعض السلف: {والشمس تجري لا مستقر لها} والمعنى أنها لا تقف، ولا تستقر، ولكنها جارية أبدا.
وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ} يريد: أنه ينزل كل ليلة منزلا، ومنازله ثمانية وعشرون منزلا عندهم، من أول الشهر إلى ثمان وعشرين ليلة منه ثم يستسرّ. وهذه المنازل هي النجوم التي كانت العرب تنسب إليها الأنواء. وأسماؤها عندهم الشّرطان والبطين، والثّريّا، والدّبران، والهقعة، والهنعة، والذّراع، والنّثرة، والطّرف، والجبهة، والزّبرة، والصّرفة، والعوّاء، والسّماك، والغفر، والزّباني، والإكليل، والقلب، والشّولة، والنّعائم، والبلدة، وسعد الذّابح، وسعد بلع، وسعد السّعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدّلو المقدّم، وفرغ الدّلو المؤخّر، والرّشا وهو الحوت. وإذا صار القمر في آخر منازله دقّ حتى يعود كالعرجون القديم وهو العذق اليابس. والعرجون إذا يبس دقّ واستقوس حتى صار كالقوس انحناء، فشبّه القمر به ليلة ثمانية وعشرين.
ثم قال سبحانه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} يريد: أنهما يسيران الدّهر دائبين ولا يجتمعان، فسلطان القمر بالليل، وسلطان الشمس بالنهار، ولو أدركت الشمس القمر لذهب ضوءه، وبطل سلطانه، ودخل النهار على الليل. يقول اللّه جل وعز حين ذكر يوم القيامة: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] وذلك عند إبطال هذا التدبير، ونقض هذا التأليف.
{وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ} يقول: هما يتعاقبان، ولا يسبق أحدهما الآخر: فيفوته ويذهب قبل مجيء صاحبه.
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي: يجرون، يعني الشمس والقمر والنجوم.
في سورة المرسلات: {انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)} [المرسلات: 29، 33].
هذا يقال في يوم القيامة للمكذبين، وذلك أن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق، وليس عليهم يومئذ لباس، ولا لهم كنان، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم، ومدّ ذلك اليوم عليهم وكربه، ثم ينجّي اللّه برحمته من يشاء إلى ظلّ من ظلّه، فهناك يقولون: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27)} [الطور: 27] ويقال للمكذبين: {انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)} [المرسلات: 29] من عذاب اللّه سبحانه وعقابه، انطلقوا من ذلك إلى ظل من دخان نار جهنم قد سطع ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب. فيكونون فيه إلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء اللّه في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل إلى أن يفرغ من الحساب، ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقرّه من الجنة أو النار. ثم وصف الظل فقال: لا ظَلِيلٍ أي: لا يظلّكم من حرّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس، ولا يغني عنكم من اللهب.
وهذا مثل قوله سبحانه: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44)} [الواقعة: 43، 44] واليحموم: الدّخان وهو سرادق أهل النار فيما ذكر المفسرون.
ثم وصف النار فقال: {إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} فمن قرأه بتسكين الصاد، أراد القصر من قصور مياه الأعراب. ومن قرأه القصر شبّهه بأعناق النخل، ويقال: بأصوله إذا قطع. ووقع تشبيه الشّرر بالقصر في مقاديره، ثم شبّهه في لونه بالجمالات الصّفر وهي السود، والعرب تسمى السّود من الإبل صفرا، قال الشاعر:
تلك خيلي منها وتلك ركابي ** هنّ صفر أولادها كالزّبيب

أي: هنّ سود.
وإنما سمّيت السّود من الإبل: صفرا، لأنه يشوب سودها شيء من صفرة، كما قيل لبيض الظباء: أدم، لأن بياضها تعلوه كدرة. والشّرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار، أشبه شيء بالإبل السّود، لما يشوبها من الصفرة.
في سورة الأنعام: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33].
يريد: أنهم كانوا لا ينسبونك إلى الكذب ولا يعرفونك به، فلما جئتهم بآيات اللّه، جحدوها، وهم يعلمون أنك صادق. والجحد يكون ممن علم الشيء فأنكره، بقول اللّه عز وجل: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
في سورة النساء: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)} [النساء: 8، 9].
فيه قولان:
أحدهما أن تكون القسمة: الوصية. يقول: إذا حضرها أقرباؤكم الذين لا يرثونكم، والمساكين، واليتامى- فاجعلوا لهم فيها حظا، وألينوا لهم القول. وليخش من حضر الوصية، وهو لو كان له ولد صغار خاف عليهم بعده الضّيعة- أن يأمر الموصي بالإسراف فيما يعطيه اليتامى والمساكين وأقاربه الذين لا يرثون فيكون قد أمره بما لم يكن يفعله لو كان هو الميت. وهو معنى قول سعيد بن جبير وقتادة.
قال قتادة: إذا حضرت وصية ميت فمره بما كنت آمرا به نفسك، وخف على ورثته ما كنت خائفا على ضعفة أولادك لو تركتهم بعدك.
والقول الآخر: أن تكون القسمة: قسمة الورثة الميراث بعد وفاة الرجل. يقول: فإذا حضرها الأقارب واليتامى والمساكين، فارضخوا لهم وعدوهم. ثم استأنف معنى آخر فقال: وليخش من لو ترك ولدا صغارا خاف عليهم الضّيعة، فليحسن إلى من كفله من اليتامى، وليفعل بهم ما يجب أن يفعل بولده من بعده. وهو معنى قول ابن عباس في رواية أبي صالح عنه.
في سورة البقرة: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266].
هذا مثل ضربه اللّه، تبارك وتعالى، للمنافقين والمرائين بأعمالهم لا يريدونه بشيء منها. يقول: يردون يوم القيامة على أعمال قد محقها اللّه وأبطلها، ووكلهم في ثوابها إلى من عملوا له، أحوج ما كانوا إلى أعمالهم، فمثلهم كمثل رجل كانت له جنّة فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر فضعف عن الكسب، وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، ففقدها أحوج ما كان إليها، عند كبر السن، وضعف الحيلة، وكثرة العيال، وطفولة الولد. وهو معنى قول ابن عباس وغيره.